--------------------------------------------------------------------------------
القاعدة العاشرة : الحرام حرام على الجميع .
الحرام في شريعة الإسلام يتسم بالشمول والاضطراد ، فليس هناك شيء حرام على الأعجمي ، حلال على العربي ، وليس هناك شيء محظور على الملون ، مباح للأبيض ، وليس هناك جواز أو ترخيص ، ممنوح لفئة من الناس ، تقترف باسمه ما طوع لها الهوى ، بل ليس للمسلم خصوصية تجعل الحرام على غيره حلالاً له ، كلا إن الله رب الجميع ، والشرع سيد الجميع ، فما أحل الله بشريعته فهو حلال للناس كافة ، وما حرَّم فهو حرام على الجميع كافة إلى يوم القيامة .
السرقة مثلاً حرام ، سواء أكان السارق ينتمي إلى المسلمين ، أو لا ينتمي ، وسواء أكان المسروق ينتمي إلى المسلمين ، أو لا ينتمي، والجزاء لازم للسارق ، أياً كان نسبه أو مركزه ، وهذا ما صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلنه حينما قال :
" إنما أهلك الذين من قبلكم ، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد ، وايم الله ؛ لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها " .
[رواه مسلم في الحدود برقم 3197 ، والترمذي برقم 1350 ، وأحمد برقم 7797]
القاعدة الحادية عشرة : حول ضابط الكسب الحلال 0
وهي قاعدة مهمة جداً في الكسب ، إن الإسلام لا يُبيح لأبنائه أن يكتسبوا المال كيفما شاؤوا ، وبأي طرق أرادوا ، بل هو يفرِّق بين الطرق المشروعة ، باكتساب المعاش ـ نظراً إلى المصلحة الجماعية ـ وبين الطرق غير المشروعة ، وهذا التفريق ، يقوم على المبدأ الكلي وهو : إن جميع الطرق لاكتساب المال التي لا تحصل فيها المنفعة للفرد إلا بخسارة فرد غيره ، غير مشروعة .. وإن الطرق التي يتبادل فيها الأفراد المنفعة فيما بينهم بالعدل والتراضي مشروعة .. هذا المبدأ يبينه قوله تعالى :
لقد أشارت كلمة لا تأكلوا أموالكم ، ولم يقل الله عز وجل لا تأكلوا أموال غيركم ، لقد أشارت كلمة " لا تأكلوا أموالكم " في الآية إلى حقيقة أساسية ، وهي ما ينبغي أن يكون عليه المؤمنون من أخوة صادقة ، ومشاركة وجدانية حانية ، يجسدها شعور المؤمن الحق أن مال أخيه هو ماله ، من زاوية واحدة ، وهي وجوب الحفاظ عليه ، وصونه من التلف والضياع ، فلأن يمتنع عن أكله بالباطل من باب أولى ، وأن مال أخيه هو ماله ، من زاوية ثانية ، وهي أن المؤمن إذا أكل مال أخيه أضعفه ، وفي إضعافه إضعاف لذاته ، فالمؤمن إذا أكل ما أخيه فكأنما أكل ماله ، لذلك ثبت في الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم :
" كل المسلم على المسلم حرام ، ماله ودمه وعرضه
[رواه مسلم في البر والصلة برقم 4650، والترمذي برقم 1850، وأبو داود في الأدب برقم 4238 ، وابن ماجه في
الفتن برقم 3923 ، وأحمد 7402]
* * *
أهمية هذه القواعد :
هناك في الدين حقائق ، يجب أن تُعلم بالضرورة ، وهي فرض عين على كل مسلم ، ذكراً كان أو أنثى ، بصرف النظر عن اختصاصه العلمي ، وعمله المهني ، ودوره الاجتماعي ، وحاله النفسي ، فإن لم يعلمها شقي ، وهلك في الدنيا والآخرة ، حقائق يجب أن تعلم بالضرورة .. نضرب على هذا مثلاً ، حينما يهبط إنسان من طائرة بالمظلة ، هناك حقائقُ كثيرة عن المظلة ، نوع قماشها ، مساحته ، شكله ، لونه ، نوع حبالها ، أطوالها ، أقطارها ، ألوانها ، وطريقة فتح المظلة ، فقد يجهل الذي يستخدم المظلة للهبوط من الطائرة نوع قماشها ، ومساحته ، وشكله ، ولونه ، ونوع حبالها وأطوالها ، وأقطارها ، وألوانها ، ويهبط سالماً .. أما إذا جهل طريقة فتح المظلة فلا بد من أن يصل إلى الأرض ميتاً ، طريقة فتح المظلة يجب أن تُعلم بالضرورة لأي مظلي ، والحلال والحرام جزء من الدين ، وهو من أخطر أجزائه ، وهو الذي ينبغي أن يُعلم بالضرورة لكل مسلم ، وحاجة المسلم إلى معرفة الحلال والحرام ، كحاجة المظلي إلى معرفة طريقة فتح المظلة .
* * *
قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعد فتح خيبر الحجاج بن علاط السلمي ، فأسلم ، وكان غنياً كثير المال ، فقال يا رسول الله : إن مالي عند امرأتي أم شيبة بمكة ، ومتفرق في تجار مكة ، فاذن لي يا رسول الله ، أن آتي مكة ، لآخذ مالي ، قبل أن يعلموا بإسلامي ، عندئذ لا أقدر على أخذ شيء منه ، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال الحجاج يا رسول الله : لا بد من أن أقول [ أي أتقول ، أذكر ما هو خلاف الواقع ] حتى أحتال به لأخذ ماله ، فقال عليه الصلاة والسلام ، كمالاً منه ، ورحمة بالحجاج : قل ما شئت ، قال الحجاج فخرجت حتى إذا قدمت مكة ، وجدت بثنية البيضاء رجالاً من قريش يستمعون الأخبار ، ويسألون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد بلغهم أنه سار إلى خيبر ، وهي من أقوى قرى الحجاز ، وهم يتجسسون الأخبار من الركبان ، وكان بينهم تراهن عظيم على مئة بعير حول من سيغلب ، أهل خيبر أم رسول الله ، فلما رأوا الحجاج ولم يكونوا علموا بإسلامه ، قالوا : الحجاج والله عنده الخبر اليقين ؛ يا حجاج ، إنه قد بلغنا أن القاطع [يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم ] قد سار إلى خيبر ، فقال الحجاج : عندي من الخبر ما يسركم ، فاجتمعوا عليه يقولون إيه يا حجاج ، قال الحجاج : فقلت لهم : لم يلق محمد وأصحابه قوماً يحسنون القتل مثلهم ، فهزم هزيمةً لم يُسمع بمثلها ، وأسر محمد ، وقالوا لا نقتله حتى نبعث به إلى مكة ، فنقتله بين أظهرهم ، بمن كان أصاب من رجالهم ، فانطلق هؤلاء الرجال فرحين أشد الفرح إلى أهل مكة ، فقيل لهم قد جاءكم الخبر ، هذا محمد ، إنما تنتظرون أن يُقدم به عليكم فيُقتل بين أظهركم ، ثم قال لهم الحجاج ، أعينوني على غرمائي أريد أن أقدم فأصيب من غنائم محمد وأصحابه قبل أن يسبقني التجار إلى هناك ، فجمعوا إليّ مالي على أحسن ما يكون ، ففشا ذلك بمكة ، وأظهر المشركون الفرح والسرور ، وانكسر من كان بمكة من المسلمين ، وسمع بذلك العباس بن عبد المطلب ، فجعل لا يستطيع أن يقوم ، من شدة حزنه من هذا الخبر ، ثم بعث العباس إلى الحجاج غلاماً ليقول له يا حجاج : الله أعلى وأجل من أن يكون الذي جئت به حقاً ، فقال الحجاج للغلام : اقرأ على أبي الفضل السلام ، وقل له : ليُخِلِ لي بعض بيوته ، لآتيه بالخبر على ما يسره ، واكتم عني ، فأقبل الغلام فقال : أبشر أبا الفضل ، فوثب العباس فرحاً كأن لم يمسه شيء ، وأخبره بذلك ، فأعتقه العباس رضي الله عنه لوجه الله : وقال لله علي عتق عشر رقاب على هذا الخبر السار ، فلما كان الظهر ، جاءه الحجاج ، فناشد العباس أن يكتم عنه ثلاثة أيام ، وقال إني أخشى الطلب ، فإذا مَضَتْ ثلاثٌ فأظهر أمرك ، وطالت على العباس تلك الأيام الثلاث ، وبعد مضي هذه الأيام الثلاث عمد العباس رضي الله عنه إلى حُلة فلبسها ، وتخلق بخلوقٍ [ أي تطيب بنوع من الطيب ] وأخذ بيده قضيباً ، ثم أقبل يخطر حتى أتى مجالس قريش ، وهم يقولون ـ إذا مر بهم لا يصيبك ـ إلا الخير يا أبا الفضل ، هذا والله من التجلد بحرّ المصيبة ، قال : كلا والله الذي حلفتم به ، لم يصبني إلا خير ، بحمد الله ، أخبرني الحجاج أن خيبر فتحها الله على يد رسوله صلى الله عليه وسلم ، وجرت فيها سهام الله وسهام رسوله ، وتزوج رسول الله ، صلى الله عليه وسلم صفية بنت ملكهم ، وإنما قال لكم ذلك ليخلص ماله منكم ، وإلا فهو ممن أسلم ، فرد الله الكآبة التي كانت بالمسلمين ، على المشركين فقال المشركون : ألا يا عباد الله ، انفلت عدو الله [ يعنون حجاجاً ] أما والله لو علمنا لكان لنا وله شأن ، ولم يلبثوا أن جاءهم الخبر بذلك .
[وقد ذكر هذه القصة ابن سعد في طبقاته ]
تتصل هذه القصة ، من زاوية واحدة من زواياها ، بموضوع الحلال والحرام ، ويستنبط منها ثلاث حقائق 0
الحقيقة الأولى : تتعلق بسنة من سنن الله في خلقه ، وهي أن الله جل جلاله ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد 0
والحقيقة الثانية : تتعلق بخلق عظيم من أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو رحمته بأصحابه ، وحرصه على مصالحهم 0
والحقيقة الثالثة : تتعلق بحكم فقهي في المال ، وهو أن حقوق العباد مبنية عل المشاححة ، بينما حقوق الله مبنية على المسامحة 0
* * *
تطبيقاً لقول الله عز وجل : " يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث " 0 هذه الشجرة المباركة ، الزيتونة ، تعد ثمرتها غذاء ووقاء ودواء ، فقد أهمل الطب الحديث البحث عما في غذاء الإنسان من فوائد وقائية ، وعلاجية ، وغذائية ، لكن في عام ألف وتسعمئة وستة وثمانين ، ظهرت أول دراسة موضوعية عن أثر زيت الزيتون في تخفيض شحوم الدم ، ثم أظهرت دراسة أخرى تبعتها ، أن أمراض شرايين القلب ، واحتشاء العضلة القلبية ، كانت نادرةً بل شبه معدومة في جزيرة كريت ، بسب أن أهل هذه الجزيرة يأكلون زيت الزيتون بكميات كبيرة ، وقد قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح :
" كلوا الزيت وادهنوا به ، فإنه يخرج من شجرة مباركة " .
[رواه الترمذي في الأطعمة برقم 1774، وابن ماجه في الأطعمة برقم 3311 ، وأحمد في مسند المكيين برقم15475 وهو صحيح 0]
يقول العلماء : زيت الزيتون أسهل أنواع الزيوت هضماً ، وفيه قيمة وقائية وعلاجية وغذائية ، وقد أجمع الأطباء على أن هذا الزيت له تأثير علاجي عجيب ، من هذا التأثير ، أنه يمكن أن نستخدمه ، لخفض الكولسترول ، الضار في الإنسان ، ورفع الكولسترول النافع ، ويستخدم أيضاً ، لخفض الضغط المرتفع ، ويُستخدم أيضاً لمرضى السكر، ويستخدم لوقاية الشرايين والأوعية من تصلبها ، وفيه مادة تمنع تخثرالدم ، وتقي الشرايين من ترسب المواد الدهنية على جدرانها ، ومن التحليلات الدقيقة أن مئة غرام من زيت الزيتون فيه غرام بروتينات ، وأحد عشر غراماً من الدسم ، وفيه البوتاسيوم ، والكالسيوم ، والمنغنيزيوم ، والفوسفور، والحديد والنحاس، والكبريت ، وفيه ألياف ، وهو غني بأهم الفيتامينات المتعلقة بتركيب الخلايا ونشاطها ، والمتعلقة بالتناسل وبالعظام ، وهو غذاء للدماغ جيد ، وغذاء للأطفال ، وله تأثير في تفتيت الحصيات ؛ حصيات المرارة والمثاني ، وله أثر ملطفٌ للالتهابات والأمراض الجلدية ، هذا الزيت له أثر طيب ، ونافع حتى في الاستعمال الخارجي ، والنبي عليه الصلاة والسلام ، لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يُوحى . فهناك أحاديث كثير عن الزيت ، من أبرزها هذا الحديث :
" كلوا الزيت وادهنوا به فإنه يخرج من شجرة مباركة "
ويكاد بلدنا الطيب بفضل الله تعالى ، أن يصل إلى المرتبة الأولى في العالم في زراعة شجرة الزيتون .
ختاماً لهذا الموضوع ، أضع بين أيديكم ، الحقيقة التالية ، يتفوق الإنسان في الدين ، لا بحجم ثقافته الدينية ، ولا بحجم عواطفه الجياشة ، نحو الإسلام والمسلمين ، ولا بحجم المظاهر الدينية التي يحيط بها نفسه ، ولكن يتفوق في الدين بمدى استقامته على منهج ربه ، قال تعالى :
" إن أكرمكم عند الله أتقاكم "
ويتفوق أيضاً ، بحجم عمله الصالح ، الذي يعود نفعه على المسلمين بخاصة ، وعلى الإنسانية بعامة ، قال تعالى :
" ولكل درجات مما عملوا "
هذه الاستقامة ، وهذا العمل الصالح ، لا يُقبلان عند الله في الآخرة إلا إذا بُنيا على معرفة بالله صحيحة ومتينة ، قال تعالى :
قيل لأحد العارفين ، من هو الولي ، أهو الذي يمشي على وجه الماء ، قال : لا ، قالوا أهو الذي يطير في الهواء ، قال : لا ، قال : الولي كل الولي ، الذي تجده عند الحرام والحلال " أن يجدك حيث أمرك ، وأن يفتقدك حيث نهاك "